*بقلم كلاوس غرو
بعد أكثر من 30 عاماً كراعٍ للكنيسة وداعٍ إلى توحيد الكنائس وزعيماً بالكنيسة، يؤمن القس الدكتور أولاف فايكس تفيت إيماناً راسخاً بأن الكنيسة يمكنها أن تغير العالم. ولقد شهد تفيت، بصفته مديراً عاماً لمجلس الكنائس العالمي للسنوات العشر الأخيرة، لما يعنيه السيد المسيح للمؤمنين في جميع ربوع العالم. وسيعود تفيت إلى موطنه في نهاية هذا الشهر ليقود كنيسة النرويج كرئيس الأساقفة لمؤتمر أساقفتها.
مدفوعاً بإيمانه بمحبة الرب، وبالدعوة إلى تشاطر هذا مع الآخرين، سيشبه تفيت دوماً ذاك القس في الأبرشية الصغيرة الذي كان عليه سابقاً. بصرف النظر عن المنصب أو الصفة، ظلت رسالته كشاهد مسيحي والتزامه بالرفقة المسيحية مستمرة. ويقول تفيت: "لطالما تمثل النهج الذي أتبعه في المساهمة بأفضل ما لدي هنا والآن، ومهما كان السياق".
لقد كانت لديه رغبة كبيرة منذ نعومة أظافره في المشاركة بفعالية في الرفقة المسيحية في جميع أرجاء العالم، وهذا ما أفضى به إلى تقلد مهام رئيسية في الشؤون المسكونية في النرويج في التسعينيات. لذا عندما تقلد منصب الأمين العام لمجلس الكنائس العالمي كان يشعر أنه على أهبة الاستعداد لهذه المهمة. ها قد مرت عشر سنوات، وسيعود تفيت إلى بلده بمناظير أوسع، وفهم أفضل للمسكونية، ولكن بنفس الشغف والتصميم الذي طالما شعر به للعمل من أجل رفقة متضامنة، ولو على الصعيد الوطني على الأقل.
ويوضح تفيت: "آخذ معي انطباعات قوية عن معنى الإيمان بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون ظروفاً صعبة. لقد كان هذا مصدر إلهام بالنسبة لي، وعزز إيماني وطريقة تبشيري بالإنجيل".
كما زادته هذه التجربة إيماناً بأن الحوار بين الأديان هو أداة لا غنى عنها لإحلال السلام الدائم.
ويواصل تفيت قائلاً: "إن إيماننا بالسيد المسيح يعني لقاء الآخرين مع احترام معتقداتهم. إذا كان الرب يحب البشرية جمعاء، وهذا ما أؤمن به فعلاً، لذا يجب علينا أن نتواصل وأن نصغي للأشخاص من المعتقدات الأخرى".
إن خوضه لمراحل مختلفة في الحياة بخصوص إيمانه ساعده على فهم ما يعنيه السيد المسيح حقاً، بالنسبة له وللكنائس عبر العالم على حد سواء.
أعطى الرب فرصة
كان والد تفيت قساً لوثرياً، لذا كان الكتاب المقدس والصلوات وحياة الكنيسة عموماً جزءاً طبيعياً من تربية تفيت. وفي وقت لاحق، انخرط في الحركة الطلابية المسيحية. وعلى الرغم من أنه لم يشعر قطُّ بأي ضغط من قبل والده، كانت لديه "جولة تأملية مع ذاته" كما يقول، فيما يتعلق بالتعليم الذي سوف يزاوله بعد التخرج من المدرسة الثانوية. وكان الاختيار بين الطب والعلوم الدينية، وكلاهما تخصصان قائمان على رعاية الآخر. ولما لم يتمكن من اتخاذ قرار، وضع الاستمارتان المملوءتان للتخصصين في ظرفين مختومين في البيت قبل الذهاب إلى جنوب المدينة في رحلة صيفية عبر القطار في القارة الأوروبية.
ويشاء القدر، عوض إكمال الطريق إلى فينيسيا، عبر بولونيا إلى روما، كما كان مخططاً له في البداية، قرر العودة إلى زيوريخ. وفي اليوم نفسه، أي 2 أغسطس/ آب 1980، لقى 85 شخصاً حتفهم في انفجار قنبلة في محطة القطار في بولونيا. فصُدم تفيت بهذا الحدث، وتخيل أنه كان يمكن أن يكون في عداد القتلى، لذا هاتف والده لإخباره أنه موافق وأنه يود تقديم طلبه إلى المدرسة النرويجية للعلوم الدينية.
ويقول تفيت: "شعرتُ بقيمة الحياة وأن عليًّ إعطاء الرب فرصة".
وبعد أربعين عاماً من ذلك، تحولت هذه الفرصة إلى نعمة وتكريس عميق.
يمكن لنداء الرب أن يصبح حقيقةً
بعد تخرجه في عام 1987، خدم تفيت كقسيس ملحق بالجيش لمدة عام، ثم كاتباً لفترة قصيرة في الجريدة اليومية النرويجية المسيحية المعروفة “Vårt Land”.
ويشير قائلاً: "كانت تجربة تعلمت منها الكثير وساعدتني على فهم أهمية وسائط الإعلام وصقلت مهاراتي في مجال التواصل.
وفي أثناء ذلك، قدم في منصب كاهن في أبرشية هارام Haram النائية وقُبل فيها، وهي مكونة من أربع جزر صغيرة خارج Ålesund في الساحل الغربي للنرويج. ورسمت هذه التجربة الأولى كقائد روحي لرعية ريفية ملامح تفيت الشاب للأبد. وعندما بلغ سن الـ 28 أصبح شخصاً يعتمد عليه الناس الذين يعيشون على الجزر ويحتاجون إليه. وقد شهد بشكل مباشر ما تعنيه الكنيسة للناس وشعر أنه يؤدي دوراً هاماً.
ويوضح تفيت قائلاً: "كانت هذه صحوة على الواقع، حيث تكون الحياة جيدة، وأحياناً صعبة وأحياناً بين البينين. وأصبحتُ أكثر نضوجاً في طريقي لكي أصبح قساً وانتهى بي الأمر إلى التطبيق العملي. بات نداء الرب حاضراً للناس بشكل يومي، عوض الحصول على جميع الأجوبة أيام الأحد".
تحولت فترة الثلاث سنوات والنصف التي قضاها تفيت وأسرته في هارام Haram بسرعة إلى قصة حب مع الحياة على الجزيرة بكل العلاقات المقربة التي جمعته بالناس هناك. شعر تفيت أن النداء الذي يدعوه إلى أن يصبح قساً أصبح حقيقة. وأقنعه كذلك أن للكنيسة، بما فيها من نقاط قوة ونقاط ضعف على حد سواء، رسالة مهمة في زرع الأمل والمواساة من خلال الإيمان. ويقول تفيت: "يصبح الدور التنبؤي للكنيسة حقيقياً جداً في المواقف الحساسة عندما يلتفت الناس إلينا ويضعون ثقتهم فينا".
وبدأت الرحلة المسكونية
كان من الصعب عاطفياً على تفيت أن يترك هارام Haram، ولكنه كان مستعداً لرفع تحديات جديدة. ففي عام 1991، بدأ رحلته المسكونية كمستشار في العلوم الدينية في الكنيسة التابعة لمجلس النرويج للشؤون المسكونية. وأصبح مشاركاً بشكل متعمق في الشؤون الدولية والحوار بين الأديان وعُيِّن أميناً عاماً للمجلس في عام 2002.
ويذكر قائلا: "منذ نعومة أظافري، عندما كانت أسرتي تتنقل كثيراً عبر النرويج، كنت فضولياً وأشعر بالتوتر نوعاً ما. تعلمتُ أن أقبل الاختلاف وكنتُ أتوقُ إلى استكشاف العالم في الخارج. وأعتقد أن هذا ما جذبني إلى الحركة المسكونية من البداية".
لحسن الطالع، لم تكن زوجته "أنا"، وهي ممرضة متخصصة في رعاية مرضى السرطان، تمانع ذلك وكانت منفتحة لاستكشاف أفق جديدة.
ويضيف تفيت مازحاً: "أعتقد أنها أدركت في وقت مبكر أن زواجنا سيكون مليئاً بالمغامرات من هذا الجانب".
ولكن لم ينتقل تفيت إلى جنيف بعد تعيينه أميناً عاماً لمجلس الكنائس العالمي إلا في عام 2009، بعدما كبر أولاده الثلاثة، وانتقل اثنان منهم إلى الخارج.
التعاطف والتضامن والأمل
رسخت تجربة تفيت في مجلس الكنائس العالمي التي دامت عشر سنوات قناعته بأن الحركة المسكونية أمر ضروري أكثر من أي وقت مضى لأنه يبني الجسور بين الثقافات والأديان والشعوب عبر العالم. ومن تجاربه القوية والمباشرة هي زيارته لقادة الكنيسة في الخرطوم، السودان، في عام 2015، حيث كانت المجتمعات المسيحية واقعة في براثن الجوع والفقر والقمع.
ويقول تفيت: "في خضم المأساة وانعدام الأمل، يصبح من المهم للغاية أن نولي الاهتمام وأن نبين للناس أنهم ليسوا لوحدهم وأن الرفقة المسيحية تعني الكثير. إن تواجدنا هنالك تضامناً مع الأشخاص المهمشين والمنسيين هو مهمة محورية لمجلس الكنائس العالمي".
وعاش تفيت لحظة لا تُنسى من نوع آخر وهي عندما كان ممثلاً للمنظمات الدينية خلال مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ المنعقد في باريس 2015 (COP21) حيث وجه دعوى مقتضبة ودقيقة لزعماء العالم قال فيها: "عليكم الآن أن تزرعوا الأمل في العالم، نحن نؤمن أن بإمكانكم أن تعطونا هذا الأمل، وإيماننا بالرب يؤكد أن بإمكانكم القيام بذلك، من حقنا أن نحلم !"
ويقول تفيت: "بوصفي ممثلاً للمنظمات المسيحية وغيرها من المنظمات الدينية، شعرتُ أن عليّ أن أغتنم الفرصة وأن أحاول أن أزرع الأمل في رجال السياسة والجمهور على حد سواء. وكانت ردود الأفعال إيجابية للغاية ومنذ ذلك الحين تُقتبس العبارة التي قلتها في ختام كلمتي "من حقنا أن نحلم" في العديد من المرات. كانت هذه من اللحظات التي شعرتُ فيها أن الحركة المسكونية بإمكانها أن تحدث فرقاً".
تسهيل الحوار من أجل إحلال السلام
لدى النظر فيما سبق، يشعر تفيت بالرضى بما أنجزه مجلس الكنائس العالمي في عمله الدعوي من أجل إحلال السلام، إذ شعر أن الكنائس قد أصبح لها تأثير أكبر. وخير دليل على ذلك إشادة رئيس كوريا الجنوبية مون جاي بمجلس الكنائس العالمي على ما يبذله من جهود من أجل إشراك كنائس بلده في الحوار الرامي إلى إحلال السلام مع كوريا الشمالية. وفي نيجيريا، تكاتف المسيحيون والمسلمون في عملية سلام بديلة قائمة على الحوار بين الأديان ورؤية مشتركة للسلام. كولومبيا وإسرائيل/ فلسطين هي مناطق أخرى يعصف بها النزاع ويبذل فيها مجلس الكنائس العالمي الجهود وأحدثت فيها الرفقة المسيحية فرقاً حقيقياً.
ويوضح تفيت قائلاً: "إن المساهمة في صنع السلام هي مهمة كبرى. وبوصفنا رفقة مسيحية عالمية، علينا أن نضع خطة لذلك، على أساس الحوار بين الأديان. لا يوجد بين أيدينا حل آخر. لا يجب علينا أبداً أن نفقد إيماننا بأن إحلال السلام أمر ممكن. ويظل إلهام الكنائس والأطراف الدينية الأخرى لتضطلع بدورها في عملية صنع السلام من الأولويات المطلقة للحركة المسكونية".
كل ذلك يتوقف على ما إن كنا نعتبر أنفسنا جنساً بشرياً واحداً أو طوائف مختلفة تتحارب فيما بينها.
ومن المجالات التي يشعر أنه كان بإمكانه أن يبذل المزيد خلال فترة عمله في المجلس اضطهادُ المسيحيين والأقليات الدينية.
ويعترف تفيت قائلاً: "لا أشعر بالرضى إزاء ما قمنا به وكنت أتمنى لو كان بإمكاننا أن نكون حاضرين أكثر تضامناً مع المضطهدين لتقديم المزيد من الدعم الفعال لهم".
رؤى جديدة وإيمان راسخ أكثر
لطالما فتحت حركة المناصرة المتزايدة لمجلس الكنائس العالمي والتفاني طويل الأمد لتفيت في الحركة المسكونية الأبواب أمام العديد من القادة الدينيين ورؤساء الدول عبر العالم. ومن القادة الذين تركوا لدى تفيت انطباعاً لا يندثر الراحل نيلسون مانديلا، الرئيس السابق لجنوب أفريقيا، الذي التقاه تفيت في عام 1993. ويقول تفيت: "حارب مانديلا بتفانٍ من أجل الحرية والعدالة. وكان يتحلى بالنزاهة والشجاعة ليدافع عن قضية عادلة في ظروف قاسية. كان مثالاً للقيادة الحقيقية".
يبلغ تفيت الآن سن الـ 59، ويشعر بالفخر والامتنان لخدمته الرفقة المسيحية ولأنه شارك في الحركة العالمية من أجل العدل والسلم. في طريقه إلى موطنه، بعد عقد من الزمن على رأس منظمة تمثل 500 مليون مسيحي، يأخذ معه رؤى جديدة وإيماناً أقوى من أي وقت مضى بالحركة المسكونية والحوار بين الأديان. كما أن إيمانه بأن الكنيسة يمكنها تغيير العالم، وأنها بالفعل غيرت العالم، بات أقوى.
بعد عقد زاخر بالأحداث على الساحة الدولية، يتطلع تفيت الآن إلى التقرب أكثر من أسرته، التي أنعم عليها الرب بأربعة أحفاد خلال السنوات التي قضاها في جنيف. وسوف يواصل تنمية ما اكتسبه خلال أداء مهامه من طاقة وإصرار وأسلوب متواضع على الدوام في منحدرات التزلج وفي تدريب الركض. ويقضي تفيت، خلال لحظات الاسترخاء في الروتين اليومي بعد العمل، وقتاً على البيانو في البيت، وعزف الترانيم وغنائها.
ويصرح تفيت: "هذه ممارسة روحية تحرك عواطفي كثيراً".
ومن هواياتي المفضلة أيضاً هي دراسة الهندسة المعمارين للكنائس وتاريخها ومشاريع الترميم الذاتية في كوخ عائلة تفيت في جنوب النرويج.
مبشر ذو رؤية يسترشد بحب الرب يستعد لرفع تحديات جديدة.
أُجريت المقابلة التي تناول فيها قصة حياته في جنيف يوم 5 آذار/ مارس 2020، قبل تصاعد أزمة فيروس كورونا.
عُيِّن الأمين العام لمجلس الكنائس العالمي رئيس أساقفة كنيسة النرويج (باللغة الإنجليزية) (البيان الصحفي الصادر عن مجلس الكنائس العالمي يوم 30 يناير/ كانون الثاني 2020)
الصلاة الربانية العالمية "متحدون من أجل الإنسانية" (البيان الصحفي الصادر عن مجلس الكنائس العالمي يوم 24 آذار/ مارس 2020)
مجلس الكنائس العالمي يحث الجميع على الصلاة في البيت (البيان الصحفي الصادر عن مجلس الكنائس العالمي يوم 22 آذار/ مارس 2020)
مجلس الكنائس العالمي يحث على "إيلاء الأولوية القصوى لحماية الحياة" (البيان الصحفي الصادر عن مجلس الكنائس العالمي يوم 18 آذار/ مارس 2020)
*كلاوس غرو هو مستشار مجلس الكنائس العالمي في مجال الاتصال.